الحوار الأدبي مع الأديب المغربي محمد بروحو الفائز بالمسابقة العربية للقصة القصيرة، نشر و وثق بمجلة دوائر ضوء للثقافة و الأدب
حوار مع أديب فائز
حاوره الكاتب المغربي حسن مستعد
توطئة :
اختلف الناس قديما وحديثا في كيفية النطق باسم تطوان وفي صفة كتابته، وبلغ ذلك سبع صور في الكتب والوثائق الرسمية، لكن أشهرها كتبت بتاء مكسورة بعد طاء ساكنة فواو فألف فنون (تطوان) ، هكذا يكتب جل الناس اسمها اليوم ، وكانت مستعملة في القرن الثامن، حسب بعض الكتب، ومنها كتاب دوحة الناشر لابن عسكر المتوفي سنة 986م، فتاريخ مدينة تطوان ضارب في القدم، ففي غربها وجدت مدينة رومانية تسمى ب "تمودة" التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد، أما تاريخها الحديث يبدأ منذ أواخر القرن الخامس عشر، عند سقوط غرناطة سنة 1492م على يد ملوك الكاثوليك "فردناند" و"إيزابيل" ؛ أي منذ أن بناها الغرناطي سيدي علي المنظري، وهو إسم أصبح رمزا ملازما لمدينة تطوان ، وعندما تم طرد الآلاف من المسلمين وكذلك اليهود من الأندلس استقروا في شمال المغرب وتطوان على وجه التحديد، ومن ثم عرفت تطوان مرحلة مزدهرة، ونهضة من الإعمار والنمو في شتى الميادين، فأصبحت مركزا لاستقبال الحضارة الأندلسية الإسلامية، هذه الحضارة تعايش من خلالها المسلم والمسيحي واليهودي؛ إذ ساهم يهود الأندلس جنبا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين على نشر الثقافة الأندلسية في المنطقة، كما حافظوا على التقاليد والمخطوطات الأندلسية في تطوان على مرّ القرون .
في هذه المدينة يستلهم أديبنا عذوبة ماضيه المزدحم بالذكريات الجميلة، والرموز المشفرة وغير المشفرة، تتوقف بين الحين والآخر، بشريط العمر الواضح والصريح على ضفافه التي لم يغادرها ، بعدما اجتاز بحواسه الروائي إلى الآفاق البعيدة في سماء الإبداع .
إن تطوان استهوت محمد بروحو وسكنته بقوة الانتماء والحنين والعشق ، تحضر بقوة الذاكرة والواقع والخيال الجميل الباذخ ، بأمكنتها وحواريها وتخومها ، بكل ما تنطوي عليه من تنوع وألوان ومذاقات.
و إذا كان هناك عظماء صنعوا التاريخ و آخرون غيروا مستقبل أوطانهم ، فهناك الأدباء الذين تمكنوا بإبداعهم و عبقريتهم و قوة إرادتهم و ربط الماضي بالحاضر و تجديده .
و ما يقدمه هؤلاء الأدباء ، ليس من أجل نهضة أوطانهم فقط ، و إنما لتنوير العقول المظلمة ، و طرد غبار الجهل الفكري ، و تنقيتها من شوائب الخرافات .
ذلك الانبهار الذي نشعر به عند قراءة نص ما قد يحدث أحيانا ، لأننا رأينا أنفسنا ، رأينا أفكارنا المهملة تلك التي قابلناها بالانتقاص و الابتذال ، رأيناها و قد أخذها أحدهم على محمل الجد ، و أظهرها بهذا الجمال .
هكذا هم الأدباء ، صاغة جواهر ، و مبدعوا أفكار عظيمة ، كالأحجار الكريمة .
ذو سرد ، ذو أناقة لغوية ، لوحات ممشوقة اللغة بحزن أنيق ، رسمت بلغة بهية ذات بوح هامس مرة ، و ذات ثورة مرات..
سرد ببعده اللغوي المحمل وجعا إنسانيا ، يقاوم بذاكرة مهيبة تحتمل الألم ، و تقهره بالرفض و عدم الخنوع ، و تتوق للإنعتاق و الحرية .
ما بين هدير الكلمات الثائرة ، و هدوء الفواصل ، و سكينة النقط ، و ما بين تعجب و علامات استفهامات ، و فوق مساحات الأوراق ، يشيد لنا القاص و الروائي محمد بروحو عالما لغويا للحياة ، يتأرجح بين الواقع و الخيال .
شغبه اللغوي الهادئ لكنه الذكي ، الذي لا يفتأ ينفلت من بين أنامل ذاكرته ليهمس لعقل و نهى القارئ ، فيمتلك عليه شغافه ، بحبر مضمخ ذائقة راوية عن جدارة و استحقاق ، تستفز مخيلته بكل ما ملكت من رقة ذات بأس .
رغم هذا الزخم الإبداعي و الحضور البادخ يقول بكل تواضع :
«كل تجاربي الإبداعية، بالنسبة لي بدايات، ربما الطموح الذي يغمرني هو الذي يدفع بي كي أفكر في هذا، إذ أريد في كل مرة أن أكتب شيئا مخالفا، شيئا أحس بأنه هو ما كنت أريد أن أكتبه، لكن مع الأسف لم يحدث هذا بعد، لذا أعتبر كل تجاربي الإبداعية بدايات».
فملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤوسهن شوامخ
الحوار :
- نلتقي معك اليوم في هذا الحوار الأدبي و في حد ذاته تكريمي لعطائك و لابداعك و لفوزك في المسابقة العربية للقصة القصيرة ، التي نظمتها مجلة دوائر ضوء للثقافة و الأدب بشراكة مع ببلومانيا للنشر و التوزيع ،
فأهلا و سهلا بك و ألف مرحبا ..
- أولا جزيل الشكر لمجلة دوائر ضوء، على تنظيمها لهذه المسابقة، ولكم الصديق الكريم رئيس تحرير المجلة السيد حسن مستعد، على هذا الحوار الذي يقرب محمد بروحو ككاتب ومبدع من عموم القراء والمهتمين بالشأن الثقافي والأدبي والإبداعي. سعيد أن أتقاسم معكم ومع القراء الأعزاء هذا البوح، والتعريف بشخصي المتواضع.
على بركة الله نبدأ ،،،
س 1: سؤال البدايات التقليدية، يعرفك الجميع كأديب وقاص وروائي، نريدك أن تحدثنا عن محمد بروحو، من هو؟ - ج : محمد بروحو من مواليد مدينة تطوان، شمال المغرب. شخص مثل جل الأشخاص، الذين يعيشون حياة مألوفة، له عائلة وأصدقاء، يطالع، ويقرأ، ويسأل، ويستشير. بعد الحياة الدراسية، اشتغلت بالتدريس لأكثر من ثلاثة عقود. أكتب القصة والرواية، وبعض المحاولات في الخاطرة والشعر. في الحقيقة أن بعض القراء هم من صنفوا بعض النصوص مما كتبت نصوصًا شعرية، وأتمنى أن ألامس بعضًا من أعاليم الشعر التي تمنحنا عذب الكلام وصفو الكتابة. - س 2 : هلا حدثتنا عن أول لقاء بالكراسة والقلم وأنت تخطط أول حرف لتنطلق بعدها في سماوات الإبداع؟
- ج : إنما إرهاصات الكتابة قد تنشأ منذ السنوات الأولى، في الكُتَّاب ونحن نتلو السور القرآنية بخشوع وتبتل، أو ونحن نقرأ قصص الأنبياء، ثم في المدرسة، ونحن نكتب الإنشاء والرسائل، ونلخص القصص والحكايات، أو نقلد دورًا مسرحيًا، آنذاك قد تتولد الرغبة في التعبير عن الأحاسيس، مرورًا بالحياة الدراسية بمستوياتها، ثم العملية التي تمنح الثقة والاعتماد على النفس، ونحن نكتشف خبايا الأشياء، وعسر الفروض، ثم ونحن نرفل في شوارع الحياة الاجتماعية، نربط علاقات ونتعارف، والتي تعلمنا أشياء كثيرة، قد لا تُكشف أسرارها إلا بالنبش في جل أحداثها التي تمر أمام أعيننا؛ نشاهدها صورًا، أو نعيشها أحداثًا، أو نرصدها مشاهد. حين نفرح ونكشف عن سر فرحنا، أو نحزن فنبحث عن سبب حزننا، حين نكابد ونعاني، نقسو ونعفو، حين نفوز ونفشل، حين نقوى ونضعف. هكذا إذن تنصهر الرؤى وتتبلور، لكن في بداية تلك المرحلة، قد يصعب كثيرًا على الإنسان أن يختار مطيته، وأن يُمسك بما قد يستهويه من أحد الأجناس الأدبية، وهذا أمر قد يحدث مع أي كاتب مُبدع في بداياته الإبداعية، وقد يحدث أيضًا أن يجرب الشخص طاقاته في جل ما يُؤنس تصوره، ويستأنس بظلاله، مُعتقدًا أن سعادته قد تكمن في قيامه بهذا العمل. وهكذا وجدت نفسي في لحظة ما، أغوص في عوالم الإبداع؛ أكتب الخواطر، أو أرسم اللوحات، أو أردد أقوالا، وجملا، وكلمات، أحيانًا قد لا تحمل أي معنى، لكنها كانت مؤشرًا موجبًا على ركوب قارب الإبداع الذي رسا بي في مرفإ قريب من ذاتي ونفسي. وفي حقيقة الأمر كانت هي لحظة الإرهاصات الأولى لخوض تجربة الإبداع بعوالمه المتعددة المتخفية في بواطن العقل الخفي، ووراء سراب الحياة المتدفقة كشلال، ليفضي بنا هذا التدفق إلى عوالم الكتابة والإبداع؛ قصة، رواية، شعر ،تشكيل.
- س 3 : تحدث في حياتنا أمور انتقالية كثيرة تحدد نجاحاتنا أو فشلنا، كي ننهض من جديد. ما هي المراحل الإنتقالية التي تعتبرها حدا فاصلا في مسيرتك القصصية؟
- ج : في الحقيقية، مراحل الحياة كلها تجارب، من بدايتها حتى نهايتها، ومن خلال هذه التجارب نكتسب المعارف، لكن أحيانًا قد تكون نتائج تلك التجارب قاسية، ليس من الضروري أن يتميز الإنسان منذ بداياته الأولى، إنه فقط في هذه المرحلة هو يبحث عن نفسه، وعن تموقعه في عالم الإبداع والكتابة، وربما هذا الإصرار قد يخلق نوعًا من التذمر لذا بعض الذين يضنون أنك منافسًا شرسًا لهم، أو قد يعتقدون بأنك ربما قد تفوقت عليهم. هذا الإرتباك الذي يحدث لمن يعاشروك ويتواصلون معك، يؤثر عليك كمبدع لا يبتغي غير إيجاد موضع له في عالم الكتابة والإبداع، فإذا بك تجد نفسك محاصرًا ومرفوضًا في عوالم أمثال هؤلاء، فيتربصون ويدفعون بك إلى الإستسلام والإنهيار والإنهزام، لكن بالتبصر والتعقل، والتأني والصبر والمثابر، قد تتخطى هذه الصعاب، فالحياة كلها مفاجآت، قد تكون أحيانا مفاجآت سارة، وأحيانا أخرى مؤذية مؤلمة. إن هذا التعسف ألا أخلاقي، أحيانًا ما يخلق في نفس الإنسان تمردًا، يُنتج صبرًا مُباغتًا، يمنحك الدَّأب والمثابرة، والعناد الذي يخلق الأمل، وبهذا الأمل حتمًا ننتصر. وفي كتابة الإبداع كجنس القصة القصيرة قد نجد متسعًا لنعبر، ونتكلم عن المسكوت عنه، سواء صرحنا به أو ضمناه الخطاب الإبداعي.
- س 4 : طقوس بعض الكتاب غريبة في المسك بأول خيوط نسج السرد، هل السي بروحو له طقوس خارج السرب.
- ج : أنا لست من الآلفين للغرابة، المغرمين بنفح طيبها في حياتهم، إنما أحب أن تُستبان الأشياء في بساطتها وعفويتها، وهذا أمر يُبهجني كثيرا ويسعدني، كما يُريحني. لكن لا مهرب من الإفصاح عن حقيقة، وهي أننا نحن من جيل المبدعين الذين أتوا متأخرين فاقتحموا عوالم الإبداع، وأن اقتحامنا لعوالم الكتابة، ما تم إلا باطِّلاعنا على أعمال الكتاب الذين سبقوا أن أنتجوا في عوالم الإبداع آلاف المؤلفة من المعارف والكتابات، وحتما وأنت تقرأ لكاتب من العظماء، لابد وأن تُدهشك طقوس الكتابة لذا هؤلاء، فعلا لبعض هؤلاء الكتاب طقوس غريبة ومميزة، ربما يعود هذا الأمر لثقافة الكاتب المبدع، تلك الثقافة التي تؤثث فكره وتصوره، ثم العوالم المؤثرة في حياته الإجتماعية التي حيا فيها وترعرع. لكن هذا لا يشفع لأي مبدع أن يتقمص شخصية غيره، فيماثله في هذه الطقوس متتبعًا خطواتها، مُتشممًا روائحها. إنها طقوس ارتبطت بالفكر الذي أوجدها، والوجدان التي أحدثتها. وبالنفس التي سكنت لها. قد تكون بعض هذه الطقوس مُدهشة غير مألوفة لذا كتاب هم أنفسهم مدهشون، وهذا نابع من دهشة التصور لديهم. أما بالنسبة لطقوسي في الكتابة، فلا غرابة لها ولا دهشة، هي طقوس عادية بلا تميز، قد يعود السبب لطبعي المتريث، فأنا حذر جدا في جر أولى خطواتي، حتى أستشير قلبي وعقلي عشرات المرات وهذا تحدٍّ يُجنبني ارتكاب أخطاء كثيرة. ومن طبعي أيضًا أن آثر الإنصات على الكلام، فأنصت أكثر مما أتكلم، إذ الإنصات بالنسبة لي مفتاح المعارف، وكلما أنصت جيدًا، كلما أحرزت معارف كثر، وإذا تكلمت أخبر عن نصف ما سمعت، في حين أحتفظ بما تبقى لي ولنفسي. ربما هذا السلوك هو ما أعانني كثيرا على أن أراجع لوقت طويل ما أريد التحدث به وعنه، وجنبني الوقوع في كثير من الأخطاء، وفي جب هذا التأني تتشكل رؤى الكتابة. لكن بلا تنضيد ولا ترتيب، والذي قد لا أجريه إلا أثناء كتابة النص. وغالبا ما أشرع في الكتابة إلا إذا شعرت باكتمال صورة النص، وأن فصول القصة قد أصبحت جاهزة لتوثق على الورق.
- س 5 : روايتك الأخيرة "جمانة امرأة البوغاز" هل هي رواية تاريخية أم رواية تستند إلى التاريخ وإلى بعض الوقائع التي حدثت بطنجة في فترات متفاوتة؟
- ج : الرواية التاريخية؛ هذا النوع المدهش، وهو ذلك النمط السردي الذي يستمد أحداثه من التاريخ، ويستند إلى التاريخ، وباعتمادنا تصنيفات الرواية التاريخية، نجد أن هنالك أربع مدارس، ومن بين هذه المدارس ما وضعت بعض النصوص في خانة الرواية التاريخية. باعتبار أن الروائي ليس مؤرخا، وإنما هو من اعتمد التاريخ مادة للسرد أو استعان بالتاريخ، ليضع المادة التاريخية داخل نص سردي تخييلي، وهذا ما ينطبق على رواية "جمانة امرأة البوغاز" باعتبارها نصًا تخييليًا وضعنا داخله مادة تاريخية، هي تاريخ طنجة، وبقراءتنا لرواية "جمانة امرأة البوغاز" نقرأ تاريخ طنجة، ونلامس بعضًا من تاريخ المدينة، طنجة الحافلة بالدهشة والتجدد، والتاريخ العريق على مر السنوات.
- س 6 : نبقى دائما مع امرأة البوغاز، هلا منحتنا إمكانية التعرف على مستويات المحكي.
هل هي سيرة ذاتية ، أم خطاب ذاتي متضمَّن، أم محكي ذاتي خارجي؟
- ج : يمكن تصنيفها ضمن خانة السيرة الذاتية الغيرية. وعن طريق السرد، حاول السارد أن يقربنا من حياة السيدة جمانة، وهو إسم مستعار، والذي اُختير أيضاً كعنوان للرواية، واسم الشخصية الرئيسة فيها. إنها تحكي لنا عن نفسها وزوجها وجيرانها، وإن عدم ذكر اسمها الحقيقي لهو تمويه إبداعي مقصود آثرته. يسلكه كثير من الكتاب في مغامراتهم الإبداعية، وأن الهدف المتوخى ليس كتابة سيرة ذاتية للمرأة بقدر ما هو كتابة رواية تخييلية، وكتابة تاريخ مرحلة معينة من تاريخ المدينة. أنا لست مؤرخاً، أنا كاتب نصوص، وتوظيف جمانة كشخصية روائية، ما هي إلا مرآة عاكسة لشخصية هذه السيدة، للتعرف على حياتها وماضيها. نترصد شخصيتها المتميزة في الزمان والمكان، ثم أننا نلامس تاريخ المدينة الحافل.
س 7 : تتعدد مدارس القصة الحديثة، هل تصنف نفسك ضمن واحدة منها، عربية أو غربية؟
- ج : في الحقيقة، التصنيف هو من اختصاص النقاد، فالناقد هو الذي يرى مستوى النص في نوعه وامتداداته، وجمالياته ورؤاه، وبهذا يحق له أن يضعه في خانته الصحيحة، لكن ما يمكن قوله: هو أنني من الكتاب الذين يميلون للكتابة الواقعية، هذا النوع من الكتابة النابع من الأحاسيس والمعاناة، يمنحك الصدق في الكتابة والتعبير، وبالنسبة لي هو أصدق أنواع الكتابة. إلا أنني أتوق أيضًا إلى كتابة النص الوصفي، الذي يمنحنا مساحة شاسعة لتوظيف جمال التخييل ودهشته، وشده الكلمة وروعتها. الوصف الذي ينمنم النص ويجوِّده، وهو أيضا مدرسة قائمة بذاتها، وبتوظيف هذين النوعين من الكتابة يبقى للنقاد الحق فيما يرونه وتصنيف ما أكتبه من نصوص في خانتها الصحيحة. وأن هذه النصوص ما هي إلا مزيجًا بين ما هو عربي وما هو غربي، وهذا شيء مألوف لذا الذين اطلعوا على الكتابات الغربية ثم العربية، لينبثق هذا المزيج ويتولد، ومنه تنشأ رؤى الكاتب وتنشب، والتي تبصم كتاباته، وتساعده على الإنعتاق من التبعية، حتى لا يظل حبيسًا لهذه الكتابات، والإفلات من حقولها المسيجة.
س 8 : أتساءل لماذا يكون البطل في السرد القصصي" شخصًا "، وهل من الممكن أن تكون القصة بلا بطل؟
- ج : ربما يعود هذا الأمر إلى طبيعة الإنسان، الذي يتعاطف مع أخيه الإنسان، لذا عادة ما يكون بطل القصة شخصًا، والقارئ بحسه الإنساني قد يرى نفسه في ظلال هذا البطل وهو يقرأ النص، ويتفاعل مع الأحداث والوقائع التي تبصم حياة البطل؛ يعاني، ويكابد، ويكافح، ليغنم بمُبتغى سعى نحوه. ثم أن أحاسيس الإنسان، أحاسيس متبادلة، وهذا شيء مألوف لذا الأشخاص الأسوياء في حياتهم الإجتماعية، إذ أن الإنسان بطبعه الفطري ميال لأخيه الإنسان، يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه. وما سُمي الإنسان إنسانا إلا لإنسانيته. لكن هذا لا يمنع من أن يُستغنى عن البطل" شخص"، فقد يكون حيوانا، أو شجرة، أو واديا، أو ضفافًا مشجرة، وكثير من الكتاب الغربيين وظفوا أبطالا غير أشخاص في قصصهم. وأحيانا قد نُضمن الشخصية، فيُعثر عليها في المتن السردي وتنكشف. ثم حين نكتب نصًا وصفيًا، يقربنا من مشهد معين،أو حالة إنسانية، أو صورة بنورامية. هذا هو السر المدهش في كتابة الإبداع، حين يَعصر الكاتب فكرة لينتج تحفة يراها القارئ بذوق سليم، أو وهو يتذوق طعمها مثل فاكهة طازجة وهي تترك في الفم حلاوة لا وصف لها.
- س 9 : شاعر وقاص وروائي، لا بد أن هناك جنس أدبي من هذه الأجناس الثلاثة تنحاز إليه وتجد نفسك معانقا إياه؟ - ج : وحتى أكون منصفًا أمينًا، فبداياتي الأولى كانت كتابة القصة القصيرة، هذا الجنس الأدبي الذي شغفت به وعشقته، ووجدت فيه ملاذا حتى أعبر وأكتب وأسجل، وكأنني أرسم لوحات تشكيلية غاية في الروعة، هذا الجنس الأدبي الذي استهواني، وامتلكني، جنس أدبي قريب إلى نفسي، وأنه يُتيح لنا فرصة الإنصهار في عوالم خفية، نستشعر أحاسيس شخوصها. أن نعبر بإيجاز ودقة وصراحة، أن نبوح بأسرار توالدت من أحاسيسنا وإدراكنا، القصة القصيرة الجنس الأدبي المُدهش، الذي ملك قلوب آلاف من الكتاب كما القراء، جنس له دهشته المميزة المثيرة. لكن لا أنكر أبدًا أنني في وقت ما ترقبت كتابة رواية، هذا الجنس الأدبي الذي يمنح متسعًا من الزمن؛ وأنت تبحث وتكتب، ثم وأنت ترفل في رحابة الفضاء السردي الروائي، تساير حكاياته وهي تتشكل، كما يتشكل الماء ثلجًا بفعل البرودة، أو تنصهر كما ينصر الفولاذ بفعل الحرارة. هذا الصراع ما بين التشكل والإنصهار، هو السر الغامض الملتبس، إلى جانب أرطال من المتعة التي تمنحها كتابة الرواية، فترى الأحداث تنبت من عدم لتصير أشياء تُلمس وتُرى، وأحيانًا تُسمع في هبوب الرياح وهي تعصف. هذا المتسع هو الذي سحبني لأكتب الرواية، لأقول ما لا أستطيع قوله في القصة القصيرة، التي تبقى جنسًا وفيًا لأصحابها. وأما الشعر فلا أعد نفسي شاعرًا، إنما هي محاولات محتشمة أضعها في خانة الخواطر، لكن للقارئ والناقد واسع النظر بعبارة أهل القانون. - س 10 : ما رأيك بمستوى الحركة الأدبية الراهنة في المغرب؟
- ج : بغض النظر عن ظروف الجائحة، يمكن القول أن الحركة الأدبية الراهنة في المغرب حركة تعيش ازدهارًا، وتطورًا؛ حركة أدبية منتعشة، فالملتقيات الأدبية التي تُنظم سواء من طرف الجهات المختصة أو بعض الجمعيات الجادة، إلى جانب الإصدارت بكمية وافرة، والتوقيعات، كما المشاركة المشرفة للمغاربة سواء في الملتقيات أو المسابقات الأدبية العربية، أو العالمية، لهو خير دليل على تفتح وانتعاش الحركة الأدبية المغربية، وبإنصاتنا لنبضها، قد نشتم أريج أزهارها، ونلامس بتائل أزاهيرها. حركة أدبية مشرفة، نقدرها ونتمنى لها الثبوت والإستمرار، كما نتمنى للكتاب والأدباء المغاربة كل التوفيق. وأنا جد متفائل بأنها حركة أدبية تخطو بخطى ثابتة نحو التتويج، ولتغدو من الحركات الأدبية الرائدة في الوطن العربي، وحتى لا يُحسب هذا الضن ضربًا من الجنون، وأُتهم بالشخص المفرط في التفاؤل، أهمس في أذن الغُرَّام أن هذا رأي مجموعة من الأصدقاء الأدباء من دول شقيقة، أُولعوا بالحركة الأدبية المغربية وقدروا جهود الكتاب والمبدعين المغاربة. وهو أمر مفرح ومشجع على أن ننسج من حركتنا الأدبية ما يُمتع أشقاءنا العرب؛ سواء أولئك الذين يعيشون في دولهم، أو الذين يعيشون في المهجر.
- س 11 : هل الناقد هو القارئ الجيد، لنصوصك القصصية، أم الناقد الأكاديمي الذي يملك ترسانة من المصطلحات لتجريبها في النص؟ - ج : من الواضح أن هنالك تباين جلي بين القارئ الجيد؛ الباحث عن متعة القراءة؛ قارئ يقرأ من أجل المشاركة في إعادة إنتاج النص، والناقد الأكاديمي الذي يستخدم آليات النقد، فاحصًا متأملا، متتبعًا أثر الجمال في النصوص. هذا التباين حتما سيرسم لنا خريطة بمعالم متباينة. فالقارئ العادي هو قارئ يبحث عن لذة القراءة ومتعتها، المتعة التي يُمكن العثور عليها في النص وكشفها، وهذا بالنسبة له هو المُبتغى من قراءة النصوص، أما الناقد الأكاديمي فله رؤية مخالفة تمام الإختلاف؛ هو قارئ بَحَّاث فاحص، يستقصي جماليات النص، نشأته وتكوينه، روافده التي أغنته، والإضافة التي أنتجها. وبالتالي فهذه قراءة باحثة مستقصية لمكنونات النصوص، للمادة التي كونتها، للعقل الذي أنتجها، وهي أرقى القراءات، حسب رأي المختصين، لأنها قراءة مؤسسة على ضوابط ومعايير، تستغور مستور النصوص، وتتقصى دفينها ومكنونها. وهذا هو الأمر الذي يشفع للناقد في أن يُعيد تشكيل النص حسب رؤيته الإبداعية النقدية. وأن كل من القارئ الجيد والناقد الأكاديمي يُكمل أحدهما الأخر. هذه الألفة ما بين القارئ الجيد والناقد الأكاديمي هي سند النص الإبداعي، وتتويج له. النص المحضوض الذي حضي بقارئ جيد وناقد أكاديمي متمرس. وقد تأتى لبعض نصوصي الإبداعية أن أخذت حقها من هذا التتويج. إن الرؤى الفنية للنص لا تكتمل إلا بقراءة نقدية متكاملة، بمعنى أننا أمام نص غير مكتمل، فالنص المكتمل هو ذلك النص الذي تلمسه يد الناقد، الذي يُشارك وينتج، وحبذا لو كان هنالك ناقد للقراءة النقدية التي خصت النص الإبداعي، وآنذاك قد تكتمل رؤى النص فتتضح معالم أسراره وتستبين أكثر فأكثر.
- س 12 : هل واكب النقد مسيرتك الإبداعية، هل أنصفك ونال رضاك؟
- ج : ليس مهما أن أكون راضيًا بالقدر الذي يغنيني، وإنما بالقدر الذي يمنح النصوص التي أكتب حقها. فالنقد يُساهم مساهمة فعالة في التعريف بالنصوص، ولمسة القراءات النقدية لمسة سحرية مشابهة بلمسة الساحر، فما أن تُكتب ورقة نقدية عن عمل ما حتى تجد القراء يُسارعون إلى البحث عن هذا العمل، النقد سحر. لكن الحصول عن هذه الوصفة السحرية ليس بالأمر الهين، لهذا عادة ما أترك الأمر للصدف التي قد تخلق المفاجأة، فيُبعث بساحر يداوي جراح النصوص، فإذا بها معافاة ترفل بين أيدي القراء. لست مُعاتبًا النقاد الذين أهملوا نصوصي رغم أن منهم أصدقاء مقربون، أترك لكل واحد حرية التصرف، وهذا يعني أن ليس لي الحق في أن ألزم أحدًا ما بقراءة نصوصي، كما أن لا أحد ملزم بقراءة نصوصي، هي قناعة واختيار، يتولدان في نفس الناقد، قد يتأخر تكونها في عقله لفترة، وقد لا تتشكل بتاتًا، لكنني وبكل صدق أقول: لمن قرأ نصوصي شكرًا جزيلاً، ولمن لم يقرأها أيضًا شكرًا جزيلاً. مع احترامي وتقديري للذين بصموا.. - س 13 : سيرتك الذاتية مليئة بالإصدارات الجماعية والتتويجات في كل المسابقات القصصية، هل كان لفوزك الأخير في المسابقة العربية للقصة القصيرة التي نظمتها مجلة دوائر ضوء إضافة أم جا غير خضرة فوق طعام؟ - ج : سؤال وجيه، يحتاج للصراحة والصدق. منذ البداية، رام مشروعي الإبداعي في الكتابة الأدبية إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، ومن بين هذه الأهداف المشاركة بكثافة في المسابقات الأدبية والفوز بها، وكان تشجيعا من بعض الأصدقاء، لكن ربما قد يُستخلص من هذا التصريح، أنني واحد من أولئك الذين يلهثون وراء الإستحقاقات والإنجازات لكسب أموال وجوائز، لكنني وبكل صدق أقول: أن هنالك مجموعة من الدوافع التي أملت هذا التوجه، من بينها دافع جسيم وجليل، وقد يُعتبر هو الدافع الأساس لإعتماد هذا المسلك في مشروعي الإبداعي، ألا وهو الوثوق والتيقن الذي أنكره كثير من القراء والأصدقاء، إما تعنتا ومكابرة، أو بدافع من ضغينة قَضَّتْ مضجع ناقم. أُلزمتُ بالبحث عن صيغة منصفة، تمثلت في المشاركة في المسابقات الأدبية التي ينوب فيها النص عن الكاتب، إذ تبقى الكلمة الفصل للنص وليس للشخص، وهذا هو المثير المدهش في المسابقات الأدبية، وكم سرني كثيرًا هذا الصُوْع، فجل المسابقات التي أحرزتها جرت في دول شقيقة، تبارى فيها عشرات من الأدباء والمبدعين العرب وغير العرب، وهذه إضافة فريدة مميزة بالنسبة للكاتب، وقنطرة يعبر منها صوته ليصل آفاقًا بعيدة، وعن جدارة واستحقاق. وبهذا تُفنى الإفتراءات والإختلاق، والتكهنات الجائرة التي أُلصقت بوجوده وحضوره. كنت مضطرا للبحث عن حل لهذه المعضلة، وافت هذه الجوائز حقي، وقالت كلمتها في حق شخصي المتواضع، ومن ثم في حق هذه النصوص التي فازت إلى جانب ثلة من الأدباء والمبدعين العرب وغير العرب. فبكل فخر أقول أن تخميني كان صائبًا، وأن خططي كانت ناجحة، وأن الضنى الذي أعياني لأرسم صورة واقع حقيقي، طامسًا صورة خيالات مشوهة أتت أكلها. سعيد سعادة غامرة بهذه التتويجات التي منحتني عزيمة وانشراحا، فقدتهما في مرحلة ما، فجل هذه المسابقات التي شاركت فيها هي سند حقيقي لمسيرتي الإبداعية، وبما فيها الفوز الأخير في المسابقة العربية للقصة القصيرة التي نظمتها مجلة دوائر ضوء. وهي مناسبة جليلة لأجدد شكري وتقديري لمجلة دوائر ضوء، ولرئيس تحريرها السيد حسن مستعد، وللجنة التحكيم الأساتذة الأفاضل: صفاء عبد المنعم، أيمن خالد دراوشة، أحمد عبده قاسم، محمد ممدوح عبد السلام، طارق سعيد أحمد.
- س 14 : هل استطاع النشر الإلكتروني أن يخدم الكاتب المبتدئ، وإلى أي حد يمكن قول ذلك؟
- ج : لكل حدث وجهان مختلفان، وجه جذَّاب أخاذ، ووجه بشع قبيح، وبإدراكنا الفطري، وثقافتنا وتجاربنا، نألف الوجه الجميل، بينما نستوحش من الوجه القبيح، وطبيعة البشر أنهم يأملون ربط الصلة مع كل جديد، والجديد هنا النشر الإلكتروني الذي استطاع أن يقرب منا الأعمال الإبداعية بسرعة واستعجال، كما يرسل بها إلى أقصى الدنيا بضغطة واحدة على الزر، أكان العمل إبداعا كتابيًا، أم فنا تشكيليًا، أم موسيقى أ م غيرها من الفنون الأخرى ، قد نعترف أنه شيء محمود، لكن في العجلة الندامة كما يُقال، فكثير من الإنتاجات الإبداعية قد يُرمى بها في الصندوق الأزرق ولم تنضج بعد ولم تكتمل، وقد لا تستجيب لمعايير النتاج الذي يجب أن ينضبط لحدود معينة. وكأننا رمينا بها في سلة المهملات. صحيح أن السعادة تغمرنا ونحن نرى نتاجنا يطل علينا من هذه المساحة الإلكترونية، لكن أحيانا قد يستحوذ ندم على هذا الشخص لاتخاذه قرارات بتلك العجلة والتسرع، واضعا نتاجا لم ينضج وعملا لم يكتمل أمام أعين ملايين من المشاهدين، لذا وجب التريث قبل السباحة في اللُّجِّ. والمثير للانتباه أن مثل هذا الأمر قد يحدث مع كتاب لهم اسم وشهرة ونتاج. لكن تبقى فرصة للكاتب المبتدئ ليجرب قدراته، رغم أنها فرصة محفوفة بكثير من المخاطرة. فما أجل من التريث الذي يحث على الإنضباط والتقيد بما يجب التقيد به، فكل شيء يأتي في أوانه، نتريث وننتظر أوان المناسبة ثم آنذاك ننطلق بوثوق. - س 15 : في الشبكة العنكبوتية العالمية تنتشر التجارب القصصية التي تفتقر إلى الإبداع على أنها أدب مقروء له جمهوره، ألا يسيء ذلك إلى المشهد الثقافي العام ويضعفه؟
- ج : الشبكة العنكبوتية فضاء مفتوح للجميع، لكن يجب أن ننتبه لمسألة مهمة جدًا، وهي أن هذا الفضاء بقدر ما هو فضاء مفتوح، بقدر ما هو فضاء محروس، مراقب، مقنن. مقنن بضوابط وقوانين وربما بأعراف، وإهمال أحد هذه الضوابط هو سقوط في المحظور. لذا وجب وضع هذه العوامل في الحسبان. ثم أن القارئ المتمرس له حاسة ذوق مرهفة، وبالتالي فهو لا يتشمم إلا روائح الإبداع الزكية، دون أن يلتفت أو يتلمس غيرها، وهذا الأمر يُحتم على صاحب التجربة الإبداعية أن يكون حذرا مما يضعه بين يدي القارئ؛ قارئ لا يرحم، قارئ ميال إلى الجودة، وفي هذه الأحوال قد يهمش مثل هذا النوع من الإبداع، إبداع يفتقر إلى الشروط والضوابط، إبداع غير مكتمل، إبداع لم ينضج بعد، وبالتالي فلن يُلتفت إليه بتاتًا، إبداع مصيره الإهمال. لذا ينبغي على المبدع أن يكون حذرا مُتيقظًا، يراقب إبداعه، يرعاه ويصونه، قبل أن يرصده القارئ. والإخلال بهذا البند أو ذاك هزيمة مُحتملة، وحتما فإن الإساءة قد تصيب المبدع نفسه قبل أن تُصيب المشهد الثقافي الذي يغربل الغث من السمين، ليضع كل منهما في خانته الصحيحة، السمين الذي يُتذوق طعمه، والغث الذي يُهمل ولن يُلتفت إليه. تجربة قد تُسعد لكنها أيضًا قد تُحزن.
- س 16 : بماذا تنصح القاص المبتدئ، هل لديك وصفة جاهزة لتمنحها له
- ج : في الحقيقة أجد نفسي؛ أنا الباحث عن النصح، أسأل وأستشير. لكن للإستئناس، لا بأس أن أُضَمِّنَ هذا الجواب وصفة حصلتها من احتكاكي بأصدقاء مبدعين، مغاربة وغيرهم، ومن تجربتي المتواضعة. فأول ما يُطالعنا ونحن نأمل في أن نُنتج أعمالا إبداعية أدبية، ما نجنيه من هذه الوصايا: التريث في الكتابة، وأن نلزم أنفسنا بالمطالعة والقراءة المتعددة المكثفة، قراءة بلا انقطاع، بلا توقف، قراءة بصفة مستمرة ودائمة، نحرص عليها حرصنا على توفر الماء والهواء والغذاء، قراءة كل ما يقع بين أيدينا، قراءة أكبر عدد ممكن من النصوص التي تستهوينا؛ القصصية أو الروائية، أو الشعرية، عربية، أو غير عربية. أن نتلمس جل التجارب الإبداعية والمدارس الأدبية، ونتذوق طعمها، إنها لطريقة مثلى ناجعة لتحصيل رصيد يُغني في الكتابة ويُساعد في القبض على أسرار الإبداع، وفك ألغازها. أن نقرأ أكثر مما نكتب. وأن نُنصت أكثر مما نتكلم، وأن التجارب علمتنا أن كل نص كتبناه هو نص البداية، وأن هذه البداية قد تكرر لتصبح بداية البدايات، بمعنى أن لا نهاية للإبداع كما أن لا حدود له. أن لا يُلتفت للنقد بعين المتذمر، راقب واستمع ثم امضي لتكمل أشغالك، وأكتب بالقدر الذي تستطيع معه تحمل عبء الكتابة. - س 17 : وصلنا لتلهف القارئ لإصداراتك، هلا أشبعت فضوله
- ج : أصدرت مجموعتين قصصيتين: بيوت ورمال، وسيدتي الشاعرة، ورواية: جمانة امرأة البوغاز. جاءت نصوص المجموعتين، إما ناحتة لمشاهد ألفناها طوال حياتنا، وهي مشاهد وصور لفئة من أفراد المجتمع، أولئك المهمشون، الذين تتراءى حياتهم كأشباح، يصارعون الحياة، ويكابدونها برفض. وكتاباتي لهذه النصوص عن حياة هؤلاء ما هي إلا تضامناً مطلقا مع هذه الشريحة من أفراد المجتمع. وإما مؤرخة لصور ولحظات من تراثنا لمناطق رُصِدت معالمها في لحظات التجوال والترحال، والتنقل بين ربوع الوطن، أو متأملة في شاسعة هذا الكون بفضائه الشاسع، وأمكنته المتعددة، وأزمنته المتوالية. إنها نصوص تحيلنا على واقع لصيق بحياتنا، ولا أظن أن هنالك أحداً ما ليست له ذكرى مع مكان.. أو زمان.. أو فرح.. أو فجيعة.. فجميعنا مثقلون بالذكريات؛ ذكريات فرح وارتياح، أو ذكريات ألم وأتراح.. ذكريات الحضور كما الغياب.. ذكريات المكوث كما ذكريات الارتحال.. لحظات هدوء أو غضب.. بكل ما يمكن أن يصاحب الإنسان من انفعالات وأحاسيس، وهو يساير إيقاع زمن عصيب حرج، ربما بما قُدر له، وليس بما اختاره هو. باختصار هذا كل ما يمكن أن أتحدث به حول نصوص هاتين المجموعتين القصصيتين.
وأما عن رواية "جمانة امرأة البوغاز" فإن الدافع المغري لكتابة هذا النصَّ الروائي، هو الوقوف على حياة أناس فعلوا الشيء الكثير، دون أن ينتبه إليهم أحد.
وفي حوار مع أحد الأصدقاء، إذا بي أستمع لشاهدة شفوية من أحد الأشخاص، ونحن نتحدث عن طنجة المدينة بسحرها وجمالها، عن تاريخ المدينة العريق الممتد عبر آلاف السنين، عن فضائها وأمكنتها المتميزة، عن دروبها وأحيائها، عن أناسها الطيبين.. إذا بي التقط قصة مشوقة، لامرأة عادية بسيطة، عاشت هنالك في هذه المدينة الجميلة، سميتها جمانة. حياة هذه السيدة مُترَعةٌ بمُؤثرات، قليلاً ما تزخر بها حياة نسوة أخريات.. استأثرنا حكاية المرأة باهتمام مبالغ، ملامسين جزء من تاريخ حياتها، وتاريخ المدينة، وقد تردد اسمها.. حياتها.. حكايتها.. داخل المدينة وخارجها، إذا بي أنجذب انجذاباً إلى شخصية فريدة، فأغتنم الفرصة وأحقق حلمي، باعتبار أن الكتابة حلم، وكتابة نص روائي عن طنجة هو من أجمل الأحلام وأحلاها قد تصادف حياة كاتب، كما أنني واثق كل الوثوق بأنه حلم كل كاتب.. فلو عَثر على ما يُعينه للكتابة عن هذه المدينة، لما تأخر ولو للحظة وجيزة.. كما أنني على يقين، بأنها فرصة لو أتيحت لأحد غير هؤلاء لما ضيعها أبداً. وجمانة هو إسم مستعار للسيدة، والذي اُختير أيضاً كعنوان للرواية، واسم الشخصية الرئيسة فيها. إنها تحكي لنا عن نفسها وزوجها وجيرانها، وإن عدم ذكر اسمها الحقيقي، لهو تمويه إبداعي مقصود آثرته، يسلكه كثير من الكتاب في مغامراتهم الإبداعية، وأن الهدف المتوخى ليس كتابة سيرة ذاتية للمرأة، بقدر ما هو كتابة رواية تخييلية، باعتبار أنني لست مؤرخاً، أنا كاتب نصوص، وتوظيفها كشخصية روائية، لمن خلاله يمكننا أن نتعرف على المرأة وحياتها وماضيها، وعن المدينة وتاريخها، بتوظيف فريد لشخصيتها المتميزة في الزمان والمكان .. وما كان الهدف الأساس منذ البداية، إلا منح المتعة المرجوة للقارئ، وهو يسلك سبيل السرد للحكاية، منذ بداية الرواية إلى نهايتها، فاسحًا أمامه مسافة فائضة للتواصل مع مكون النصِّ المنتج للعبة السرد، وتقصي أغوار مداركه ومفاهيمه، ومنح المتلقي تخييلا قادراً على إشباعه إشباعا فائضا. إنها شخصية فذة، عاشت في طنجة زمنا، وعادة ما يحاول الكاتب توظيف شخصية ما لينسج خيوط السرد، ويُولِّف فيما بينها وبين مكونات الفضاء الروائي ما يُنشئ في النهاية نسيجا متوقعا، أو محتملا من سلسلة الأحداث والمصائر، والتي تختارها شخصيات الرواية عن طواعية، على حد قول الكاتبة التشيلية" إيزابيل الليندي.. ليُنْشَأَ النصُّ- الروايةُ. كلمة أخيرة : أولا أجدد شكري لمجلة دوائر ضوء، ولرئيس تحريرها حسن مستعد. كانت فرصة ثمينة، أتاحت لنا فُسحة للبوح ببعض أحلامنا. شكرًا لأنك أتحت لنا فرصة نادرا ما يُعثر عليها، أتحت لنا مساحة يرفل في انفراجها بوحنا. لك مني كل التحايا والتقدير. ثم وبكل صدق، أود أن أقول، أن جل المسابقات الأدبية ومنها مسابقة مجلة دوائر ضوء، هي بمثابة الشاهد على جودة الأعمال، وهي المساند الرئيس للمبدع، تخرجه من القوقعة التي تُمليها ظروف معينة. وتؤمن على إبداعه وتؤشر بيد بيضاء لا يشوبها غل ولا إحنة، تدحض وتُبطل آراء تُبخس أعمالا بذل أصحابها مجهودًا ،وتفند إدعاءات مغرضة. كم حرصت أن أظل من أولئك الذين لا ينجذبون وراء المجادلة والنقاش العقيم الذي قد لا يُغني في شيء، وأُذعنت للمثل القائل : قل كلمتك وامضي.
Commentaires
Enregistrer un commentaire