قراءة نقدية للأستاذة نجلاء المزي ، لقصيدة الشاعر التونسي طاهر الذوادي الساعة تشير الآن ، منشورة و موثقة بمجلة دوائر ضوء للثقافة و الأدب .
الأستاذة نجلاء المزًِي ، تعود إلينا بقراءاتها الماتعة و تحليلاتها الصائبة و نقدها البناء .
صائدة القصائد المبهرة و راعية شجرة الشعراء المثمرة ، كطفلة تفك جدائل الكلمة و تعيد ظفرها بشرائط ملونة تأسر كل محب للجمال و كل تواق للغوص في بحر القريض.
اختارت القصيدة المنشورة بمجلة دوائر ضوء للشاعر التونسي طاهر الذوادي " الساعة تشير الآن " .
**** الساعة تشير الآن ****
الساعة تشير الآن.....
إلى أرض الا وطن
خلف راية....
علق على جسد
انتهك .....
كتب في الساحات
أم الا ولد
أب الا سند
شهيد الا شهادة
سفينة الا شراع
بوصلة الا وجهة....
خيمة الا وتد....
وطن الا حضن....
الساعة تشير الآن
إلى شاعر الا كلمة
على شرفة
نثرت ....
حروف الا كتابة
قصيدة ...
ساعي الا بريد
قلم الا ألم
جرح الا دم
حبرت ....
رصيف الا أقدام
قميص الا يوسف
أحجية الا أصم
الساعة تشير الآن
إلى مئذنة الا صلاة
صلاة الا عمل
عباءة الا عبادة
اسلام الا سلام
إلى
حب الا وفاء
زحمة الا صديق
موعد الا زمن
جبّ الا قافلة
إلى
عقارب الا ساعات
إلى
الساعة الأخيرة
.........الا خيبة
كم ساعة تفصلنا
عن باقي العتمة ؟؟
كم الا تنقصنا
عن باقي الساعة ..؟.؟
كم اشارة لنا
عن ضياع المدن..؟؟
كم الآن سيّرتنا
إلى اعدام الزمن ؟..؟
كم خيبة .....؟؟؟
كم خيبة الا وطن ....؟؟
كم خيبة الا انسان .....؟؟؟
•••••••••••••••••••••
يا لهذه القصيدة المشاكسة! الراااائعة!لقدفتحت عليً أبواب الجحيم؟!! إذ صورت واقعنا القاتم بطريقة محترفة
و بأسلوب مراوغ. وباتت تلحً عليً. وتدعوني في صمت صارخ.
كنت رافقت الشاعر في كل تجربته الشعرية. وقرأت كل قصائده : غزلية كانت أو وطنية أو وجودية... حتى الومضات التي بدأ بها . فما انفكت كلها تغازل قلمي. ولكن هذه القصيدة أخذته عنوة إلى التنقيب فيها لاستخراج دررها .
ٍٍِِِاقرأها أوًل مرة. ستبدو لك غامضة كأحجية :فأي ساعة هذه التي تشير إليها القصيدة ؟!
العنوان: بدا مألوفا .ولكن المتن ملأه ايحاءات لتنفتح القصيدة على كل القراءات.ونقاط الاسترسال تشير إلى ذلك ....
نظم شاعرنا المبدع القصيدة في شكل
أربع وقفات متماثلة في الطول أو تكاد .بدأت الثلاث الأولى بنفس اللازمة
وهو العنوان : "الساعة تشير الآن ". أما
الوقفة الرابعة فقد انتقلت من الأجوبة إلى الأسئلة من برد اليقين إلى حيرة ممضة لتغرق القاريء في بحر عجاج لشدة افصاحها عن الحقيقة.لقد كانت الأسئلة أكثر بوحا من الأجوبة!!!!
***"الساعة تشير الآن ...":وهو العنوان هو إجابة عن سؤال مألوف. ولا شك أن الإجابة لن تعدو أن تكون تعيين ساعة من ساعات النهار أو الليل.ولكن إبحارك في متن القصيدة قيد التحليل يزلزلك، يبهرك ،يذهلك،يحبس أنفاسك.لقد اتخذ الشاعر العنوان مطية ليقض مضجعك ويزيل الغشاوة عن بصرك .فاذا الواقع أمامك بكل خيباته. يذكرك بقصائد مشابهة تناولت مواضيع مألوفة بلغة بسيطة. جعل منها أصحابها بوابة لمعاني خالدة كقصيدة محمود درويش:
أحنً إلى خبز أمًي
وقهوة أمًي...
ولمسة أمًي....
وتكبر في الطًفولة
يوما على صدر يوم
وأعشق عمري
لأني إذا متً ،
أخجل من دمع أمًي !
أما استحضار الزمن والعزف على وتر النهايات فكثيرة هي العناوين التي اعتمدت ذلك دلالة على صراع الإنسان الدائم مع الوقت خوفا من الفناء .وهو صراع وجودي رغبة في الخلود. نجده في الأساطير الإغريقية ، وفي التراث الحكائي، كما في القصص القرآني:قصة أكل آدم وحواء من الشًجرة المحرًمة .
كما نجد للكاتب المصري العظيم: نجيب محفوظ" روايةتحت عنوان :
"بقي من الوقت ساعة" . لكأنه فيها يقرع بوابة النهاية.. فيشد كل انتباهك. ويشحذ كل حواسك خوفا من الوقت
***نظرة في القصيدة تكشف أنً كل وقفة تتمحور حول معنى خاص بها. ولهذا سيكون تحليلنا بالنًظر فيها كلا على حدة. ثم نظرة شمولية لنرى ما يجمع بين هذه الوقفات.
*في الوقفة الأولى يدور المعجم حول الوطن والحرب :( الوطن- أرض-سفينة-خيمة)
معجم الحرب:راية-انتهك-شهيد-شهادة)
لتعود بنا القصيدة إلى الواقع بكل مراراته وفواجعه .وتتتابع في أذهاننا صور أوطاننا المنتهكة : فلسطين والعراق واليمن وليبيا وسوريا...فالساعة تشير الآن إلى وطن مسلوب الارادة تتنوع فيه صور العنف المسلطة على مواطنيه من أعداء الوطن أو من أبنائه الساسة المستبدين ومن المتسلقين الذين قضوا على شعورنا بالانتماء .فغدت أوطاننا أشبه بأرض نقيم عليها. ولا مشاعر تشدنا إليها.
_الساعة تشير الآن....
إلى أرض بلا وطن
_وطن الا حضن
وهذا الاستثناء سيشق كل معاني القصيدة لينقل صور الغبن والظلم والقهر:من موت للشباب في ساحات الوغى بسبب الحرب أو الإرهاب ...
أم بلا ولد
أب بلا سند
رايات الوطن باتت ترفع على أجساد منتهكة. ونغرق في التيه. ونضيع. فلا وجهة
سفينة بلا شراع
بوصلة بلا وجهة
وتتتالى صور موت اللاجئين في بلاد الصقيع أو في قوارب الموت ،موت اعتباطي لهثا وراء الرغيف واملا في حياة أفضل بعد ان تكالب الرعاة على المناصب وأهملوا أمر الرعية
*في الوقفة الثانية: يواصل الشاعر نفس العزف الحزين. فالإيقاع في قصيدة النثر إيقاع داخلي يخضع لرؤية
الشاعر. وقد قامت موسيقى القصيدة على تكرار "إلا" التي تابعت إفراغ
الأشياء من معانيها. إذ بات واقعنا أجوفا وسنواتنا عجافا .قصائدنا بلا معنى ولا روح. ولعل في ذلك إشارة للصدام بين أتباع قصيدة النثر والقصيدة العمودية إذ رأوا فيها قالبا فارغا من المعنى هو أشبه :"بنقيق الضفادع"كما يصفه ميخائيل نعيمة ولهذا استبدلوا ايقاع التفعيلة والوزن بالإيقاع الداخلي فأصبح الشاعر "حرفي لغة" بما ينشئه من روابط بين حقول دلالية مختلفة. فينحت لغة لها من الجدة والفرادة ما يجعلها تفيض بالدلالات. لكأنها مركز اشعاعات تبوح دون توقف. وتأبى أن تستهلك من قراءة واحدة.
هذا الواقع بات ملغزا. معطل فيه الفعل
ولأن زمن المعجزات قد ولًى فليس عليك أن تنتظر قميص يوسف ليرتد إليك البصر ولتفك أحجيات الواقع.
فالساعة تشير الآن إلى :
قميص إلا يوسف
أحجية إلا أصم
هذا التيه الذي تتخبط فيه أوطاننا في الوقفة الاولى والذي تتمزق فيه القصيدة بين رغبة في التحرر من الأغلال ومن القيود الشكلية التي تكبلها في الوقفة الثانية سيمتد هذا الضياع *إلى المجال الاجتماعي :ضياع القيم والاخلاق في الوقفة الثالثة لهذا سينتشر المعجم الديني :(مئذنة/صلاة/عباءة/اسلام /سلام)
ومعجم القيم:(حب/وفاء/رحمة )
فينتقد الشاعر إفراغ الدين من مقاصده
والإكتفاء بالقشور فما بقي من الدين إلا رسمه: الساعة تشير الآن
إلى مئذنة إلا صلاة
صلاة إلا عمل
عباءة إلا عبادة
إسلام إلا سلام
ورغم أن الأديان كلها تجمع على قيم المحبة والإخاء وان جوهر العبادة العمل والآيات الكريمة جلية المعنى في القرآن الكريم:
"وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون"
"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"وفي الأحاديث النبوية الشريفة:"لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
رغم هذا الوضوح في مقاصد الدين الحق فقد ساد زمانٓنا التطرفُ الديني.
وبات الإنسان يدان بظاهره (هيأة المتعبد لا جوهر العبادة ).هذا العنف الديني الذي قام على الإقصاء واالتكفير والارهاب..أشقانا وأساء للإسلام وللمسلمين وغدت العباءة رمز الإرهابيين ونتيجة هذا الفهم الخاطىء انتشرت قيم هجينة فالساعة تشير الآن
إلى:إسلام إلا سلام
إلى
حب إلا وفاء
رحمة إلا صديق
موعد إلا زمن
ساعة عقاربها تشير إلى خيباتنا المتلاحقة على كل الاصعدة ساعة معطلة بتعطيل العمل والخلق وعدم ترسيخ الهوية وانقلاب القيم:
عقارب إلا ساعات
الساعة الأخيرة
......... إلا خيبة
الساعة تشير الا الفاجعة إلى نهاية تراجيدية. يكفي خيبة واحدة لنبلغ الساعة الأخيرة.فانتشار القيم السلبية مؤشر على زوال المدنية والتردي إلى الحيوانية حيث البقاء للأقوى وقد لخص العلامة ابن خلدون واضع علم الإجتماع البشري ذلك في قوله:الظلم مؤذن بزوال العمران"
ويلفك الوجع .تتلوى روحك حسرة. تنزف لوعة لهذا الضياع الذي عرًاه الشاعر. ما تركت لنا شيئا لنواري به سوءاتنا .ما تركت شيئا لنلتحف به من صقيع الحقيقة. كم كنت قاس؟!كم كانت حدقتك مبصرة!!!لكن الحقيقة موووجعة قد تصيبنا بالعمى. نحن الذين اعتدنا العيش في الكهف فأضحى النور عدونا اللدود!!
*في الوقفة الرابعة ننتقل من الجمل الخبرية التقريرية التي تحمل الاجابات إلى جمل إنشائية جمل استفهام متلاحقة كم؟كم؟كم؟....حملت الأسئلة.
والعجيب واللذيذ أن الأجوبة كانت هي الغامضة في حين بدت الأسئلة اكثر وضوحا فلا تورية ولا ايماء ولا اشارة
كم:استفهام عن الكمية تكرر سبع مرات
جاءت لجوجة تلح في إصرار للظفر بجواب صريح.فالساعة تشير الآن إلى قرب نفاد الوقت لم يبق إلا باقي الساعة والذي يساوي اعدام الزمن:
كم ساعة تفصلنا
عن باقي العتمة؟!
كم إلا تنقصنا
عن باقي الساعة؟؛
كم إشارة لنا
عن ضياع المدن....؟!
كم الآن تسيرنا
إلى إعدام الزمن؟!
ما بقي إلا بعض خيبات الوطن وخيبات الإنسان.بعض الوقت ونبلغ العتمة. ونغرق في الديجور.ونعود إلى قانون الغاب بضياع المدن وتردي الإنسان إلى الحيوانية باعتماد العنف وضياع القيم.
مزعجة هذه القصيدة قالت كل شيء
دفعة واحدة أظهرت كل الندوب ونكأت الجراح لم تنس ان تنبش حتى ماتوارى في شقوق أرواحنا. نبذتنا دون رحمة في العراء
كلنا نستشعر هذا التيه خاصة بعد أن انضاف إلى كرنفال المصائب(العنف، الارهاب ،البطالة،قوارب الموت، التطبيع
الحروب....) جائحة كورونا
أحجية الا أصم
ولكن الشاعر عبر عن الفاجعة بأسلوب مميز بلغة بسيطة عميقة بإيقاع هادر لتبلغ القصيدة أوجها بتكرار الاستثناء (إلا) والاستفهام (كم)ونقاط الاسترسال....
***وعلى الجملة فقد حق لهذهالقصيدة أن تجرني جرا لما فيها من الشهد المصفى على مرارة الواقع الذي تصف فلله درك شاعرنا ! لقد غمرتني مغامرة البحث بلذة غامرة لقد رأيت وجهي في مرآة القصيدة ولامست وجعي وألم من حولي في أسطرها.واحتضنت روحك المترعة بالفجيعة .فما كانت إلا روحي
لقد أهديتنا گأسا من اللذة.المريرة قصيدة معتقة مترعة بالفواجع.
#وما هذه القراءة إلا مقاربة ممكنة فقد بتنا ندرك ان قصيدة النثر عصية متمنعة لا تعطيك كل سحرها مرة واحدة أبية أن تستهلك من قراءة واحدة تتدارى معانيها وراء غموض شفيف كفاتنة متمنعة وتترك الباب مواربا لقراءات متنوعة تنوع ثقافة القارئ ومقاربته
نجلاء المزًِي
Commentaires
Enregistrer un commentaire